فصل: (سورة المؤمنون)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَصْطَفِى‏}‏ أي يختار ‏{‏مِنَ الملائكة رُسُلاً‏}‏ يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام بالوحي ‏{‏وَمِنَ الناس‏}‏ أي ويصطفى من الناس رسلاً يدعون من شاء إليه تعالى ويبلغونهم ما نزل عليهم والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وتقديم رسل الملائكة عليهم السلام لأنهم وسائط بينه تعالى وبين رسل الناس، وعطف ‏{‏مِنَ الناس‏}‏ على ‏{‏مِنَ الملئكة‏}‏ وهو مقدم تقدير على ‏{‏رُسُلاً‏}‏ فلا حاجة إلى التقدير وإن كان رسل كل موصوفة بغير صفة الآخرين كما أشرنا إليه، وقيل‏:‏ إن المراد الله يصطفي من الملائكة رسلاً إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به من الطاعات ومن الناس رسلاً إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به أيضاً وهذا شروع في إثبات الرسالة بعد هدم قاعدة الشرك وردم دعائم التوحيد‏.‏

وفي بعض الأخبار أن الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة ‏{‏أأنزل عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا بْل‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏ الآية وفيها رد لقول المشركين الملائكة بنات الله ونحوه من أباطيلهم ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ بجميع المسموعات ويدخل في ذلك أقوال الرسل ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ بجميع المبصرات ويدخل في ذلك أحوال المرسل إليهم، وقيل‏:‏ إن السمع والبصر كناية عن عمله تعالى بالأشياء كلها بقرينة

‏[‏بم قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ لأنه كالتفسير لذلك، ولعل الأول أولى، وهذا تعميم بعد تخصيص، وضمير الجمع للمكلفين على ما قيل‏:‏ أي يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها، وعن الحسن أول أعمالهم وآخرها، وعن علي بن عيسى أن الضمير لرسل الملائكة والناس والمعنى عنده يعلم ما كان قبل خلق الرسل وما يكون بعد خلقهم ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏ كلها لا إلى غيره سبحانه لا اشتراكاً ولا استقلالاً لأنه المالك لها بالذات فلا يسئل جل وعلا عما يفعل من الاصطفاء وغيره كذا قيل، ويعلم منه أنه مرتبط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَصْطَفِى‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏ الخ وكذا وجه الارتباط، ويجوز أن يكون مرتبطاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ الخ على معنى واليه تعالى ترجع الأمور يوم القيامة فلا أمر ولا نهي لأحد سواه جل شأنه هناك فيجازي كلا حسبما علم من أعماله ولعله أولى مما تقدم ويمكن أن يقال‏:‏ هو مرتبط بما ذكر لكن على طرز آخر وهو أن يكون إشارة إلى تعميم آخر للعلم أي إليه تعالى ترجع الأمور كلها لأنه سبحانه هو الفاعل لها جميعاً بواسطة وبلا واسطة أو بلا واسطة في الجميع على ما يقوله الأشعري فيكون سبحانه عالماً بها‏.‏

ووجه ذلك على ما قرره بعضهم أنه تعالى عالم بذاته على أتم وجه وذاته تعالى علة مقتضية لما سواه والعلم التام بالعلة أو بجهة كونها علة يقتضي العلم التام بمعلولها فيكون علمه تعالى بجميع ما عداه لازماً لعلمه بذاته كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته سبحانه وفي ذلك بحث طويل عريض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏الامور يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا‏}‏ أي صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها وأفضلها والمراد أن مجموعهما كذلك وهو لا ينافي تفضيل أحدهما على الآخر ولا تفضيل القيام أو السجود على كل واحد واحد من الأركان، وقيل‏:‏ المعنى اخضعوا لله تعالى وخروا له سجداً، وقيل‏:‏ المراد الأمر بالركوع والسجود بمعناهما الشرعي في الصلاة فإنهم كانوا في أول إسلامهم يركعون في صلاتهم بلا سجود تارة ويسجدون بلا ركوع أخرى فأمروا بفعل الأمرين جميعاً فيها حكاه في البحر ولم نره في أثر يعتمد عليه، وتوقف فيه صاحب المواهب وذكره الفراء بلا سند ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ‏}‏ بسائر ما تعبدكم سبحانه به كما يؤذن به ترك المتعلق، وقيل‏:‏ المراد أمرهم بأداء الفرائض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالنوافل وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أمر بصلة الأرحام ومكارم الأخلاق ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي افعلوا كل ذلك وأنتم راجون به الفلاح غير متيقنين به واثقين بأعمالكم، والآية آية سجدة عند الشافعي‏.‏ وأحمد‏.‏ وابن المبارك‏.‏ واسحق رضي الله تعالى عنهم لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولما تقدم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت‏:‏ يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين‏؟‏ قال‏:‏ «نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وعمر‏.‏ وابنه عبد الله‏.‏ وعثمان‏.‏ وأبو الدرداء‏.‏ وأبو موسى‏.‏ وابن عباس في إحدى الروايتين عنه رضي الله تعالى عنهم، وذهب أبو حنيفقة‏.‏ ومالك‏.‏ والحسن‏.‏ وابن المسيب‏.‏ وابن جبير‏.‏ وسفيان الثوري رضي الله تعالى عنهم إلى أنها ليست آية سجدة، قال ابن الهمام‏:‏ لأنها مقرونة بالأمر بالركوع والمعهود في مثله من القرآن كونه أمراً بما هو ركن للصلاة بالاستقراء نحو ‏{‏واسجدى واركعى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏ وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال، وما روي من حديث عقبة قال الترمذي‏:‏ إسناده ليس بالقوي وكذا قال أبو داود‏.‏ وغيره انتهى‏.‏

وانتصر الطيبي لإمامه الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها وأما السجود فلما لم يختص حمل على الحقيقة لعموم الفائدة ولأن العدول إلى المجاز من غير صارف أو نكتة غير جائز والمقارنة لا توجب ذلك، وتعقبه صاحب الكشف بأن للقائل أن يقول‏:‏ المقارنة تحسن ذلك، وتوافق الأمرين في الفرضية أو الإيجاب على المذهبين من المقتضيات أيضاً، ثم رجع إلى الانتصار فقال‏:‏ الحق إن السجود حيث ثبت ليس من مقتضى خصوص تلك الآية لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة بل إنما ذلك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو قوله فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة ومع ذلك تشرع السجدة عند تلاوتها لما ثبت من الرواية الصحيحة، وفيه أنه إن أراد أن ما ثبت دليل مستقل على مشروعيتها من غير مدخل للآية فذلك على ما فيه مما لم يقله الشافعي ولا غيره، وإن أراد أن الآية تدل على ذلك كما تدل على فرضية سجود الصلاة وما ثبت كاشف عن تلك الدلالة فذلك قول بخفاء تلك الدلالة والتزام أن الأمر بالسجود لمطلق الطلب الشامل لما كان على سبيل الإيجاب كما في طلب سجود الصلاة ولما كان على سبيل الندب كما في طلب سجود التلاوة فإنه سنة عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ولعله يتعين عنده ذلك ولا محذور فيها بل لا معدل عنه إن صح الحديث لكن قد سمعت آنفاً ما قيل فيه، ولك أن تقول‏:‏ إنه قد قوى بما أخرجه أبو داود‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن مردويه والبيهقي عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل‏.‏

وفي سورة الحج سجدتان وبعمل كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الظاهر في كونه عن سماع منه صلى الله عليه وسلم أو رؤية لفعله ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وجاهدوا فِى الله‏}‏ أي لله تعالى أو في سبيله سبحانه، والجهاد كما قال الراغب استفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو ثلاثة أضرب‏.‏ مجاهدة العدو الظاهر كالكفار‏.‏ ومجاهدة الشيطان‏.‏ ومجاهدة النفس وهي أكبر من مجاهدة العدو الظاهرة كما يشعر به ما أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال‏:‏ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال‏:‏ ‏"‏ قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل وما الجهاد الأكبر‏؟‏ قيل وما الجهاد الأكبر‏؟‏ قال‏:‏ «مجاهدة العبد هواه ‏"‏ وفي إسناده ضعف مغتفر في مثله‏.‏

والمراد هنا عند الضحاك جهاد الكفار حتى يدخلوا في الإسلام، ويقتضي ذلك أن تكون الآية مدنية لأن الجهاد إنما أمر به بعد الهجرة‏.‏ وعند عبد الله بن المبارك جهاد الهوى والنفس، والأولى أن يكون المراد به ضروبه الثلاثة وليس ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء، وإلى هذا يشير ما روى جماعة عن الحسن أنه قرأ الآية وقال‏:‏ إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف، ويشمل ذلك جهاد المبتدعة والفسقة فإنهم أعداء أيضاً ويكون بزجرهم عن الابتداع والفسق ‏{‏حَقَّ جهاده‏}‏ أي جهاداً فيه حقاً فقدم حقاً وأضيف على حد جرد قطيفة وحذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى ضميره تعالى على حد قوله‏:‏ ويوم شهدناه سليماً وعامراً *** وفي «الكشاف» الإضافة تكون لأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله تعالى من حيث أنه مفعول لوجهه سبحانه ومن أجله صحت إضافته إليه، وأياً ما كان فنصب ‏{‏حَقّ‏}‏ على المصدرية، وقال أبو البقاء‏:‏ إنه نعت لمصدر محذوف أي جهاداً حق جهاهد، وفيه أنه معرفة فكيف يوصف به النكرة ولا أظن أن أحداً يزعم أن الإضافة إذا كانت على الاتساع لا تفيد تعريفاً فلا يتعرف بها المضاف ولا المضاف إليه، والآية تدل على الأمر بالجهاد على أتم وجه بأن يكون خالصاً لله تعالى لا يخضى فيه لومة لائم وهي محكمة‏.‏

ومن قال كمجاهد‏.‏ والكلبي‏:‏ إنها منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ فقد أراد بها أن يطاع سبحانه فلا يعصى أصلاً وفيه بحث لا يخفى، وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال لي عمر رضي الله تعالى عنه ‏{‏ألسنا كنا نقرأ وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ بلى فمتى هذا يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره، ولا يخفى عليك حكم هذه القراءة، وقال النيسابوري‏:‏ قال العلماء لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسيره صلى الله عليه وسلم وليست من نفس القرآن وإلا لتواترت وهو كما ترى ‏{‏الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده هُوَ اجتباكم‏}‏ أي هو جل شأنه اختاركم لا غيره سبحانه، والجملة مستأنفة لبيان علة الأمر بالجهاد فإن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته ومن قربه العظيم يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه بترك ما لا يرضاه ففيها تنبيه على المقتضى للجهاد، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين‏}‏ أي في جمع أموره ويدخل فيه الجهاد دخولاً أولياً ‏{‏مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه، والحاصل أنه تعالى أمرهم بالجهاد وبين أنه لا عذر لهم في تركه حيث وجد المقتضى وارتفع المانع‏.‏

ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الرخصة في ترك بعض ما أمرهم سبحانه به حيث شق عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ‏"‏ فانتفاء الحرج على هذا بعد ثبوته بالترخيص في الترك بمقتضى الشرع وعلى الأول انتفاء الحرج ابتداء، وقيل‏:‏ عدم الحرج بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجاً بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد، ولا يخفى أن تعميمه للتوبة ونحوها خلاف الظاهر وإن روى ذلك من طريق ابن شهاب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏

وفي«الحواشي الشهابية» أن الظاهر أن حق جهاده تعالى لما كان متعسراً ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه‏.‏

وذكر الجلال السيوطي أن هذه الآية أصل قاعدة المشقة تجلب التيسير وهو أوفق بالوجه الثاني فيها‏.‏

‏{‏مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم‏}‏ نصب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الاختصاص بتقدير أعني بالدين ونحوه وإليهما ذهب الزمخشري، وقال الحوفي‏.‏ وأبو البقاء‏:‏ نصب على الإغراء بتقدير اتبعوا أو الزموا أو نحوه، وقال الفراء‏:‏ نصب بنزع الخافض أي كملة أبيكم، والمراد بالملة إما يعم الأصول والفروع أو ما يخص الأصول فتأمل ولا تغفل، و‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ منصوب بمقدر أيضاً أو مجرور بالفتح على أنه بدل أو عطف بيان، وجعله عليه السلام أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته عليه السلام فغلبوا على جميع أهل ملته صلى الله عليه وسلم ‏{‏هُوَ‏}‏ أي الله تعالى كما روى عن ابن عباس‏.‏

ومجاهد والضحاك‏.‏ وقتادة‏.‏ وسفيان، ويدل عليه ما سيأتي بعد في الآية وقراءة أبي رضي الله تعالى عنه ‏{‏الله‏}‏ ‏{‏سماكم المسلمين مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل نزول القرآن وذلك في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل ‏{‏وَفِى هذا‏}‏ أي في القرآن، والجملة مستأنفة، وقيل إنها كالبدل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ اجتباكم‏}‏ ولذا لم تعطف، وعن ابن زيد‏.‏ والحسن أن الضمير لإبراهيم عليه السلام واستظهره أبو حيان للقرب وتسميته إياهم بذلك من قبل في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏ وقوله هذا سبب لتسميتهم بذلك في هذا لدخول أكثرهم في الذرية فجعل مسمياً لهم فيه مجازاً، ويلزم عليه الجمع بين الحقيقة والمجاز وفي جوازه خلاف مشهور، وقال أبو البقاء‏:‏ المعنى على هذا وفي هذا بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى في القرآن مقالته، وقال ابن عطية‏:‏ يقدر عليه وسميتكم في هذا المسلمين، ولا يخفى ما في كل ذلك من التكلف‏.‏

واستدل بالآية من قال‏:‏ إن التسمية بالمسلمين مخصوص بهذه الأمة وفيه نظر‏.‏

‏{‏لِيَكُونَ الرسول‏}‏ يوم القيامة ‏{‏شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏ أنه قد بلغكم، ويدل هذا القول منه تعالى على قبول شهادته عليه الصلاة والسلام لنفسه اعتماداً على عصمته ولعل هذا من خواصه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم وإلا فالمعصوم يطالب في الدنيا بشاهدين إذا ادعى شيئاً لنفسه كما يدل على ذلك قصة الفرس وشهادة خزيمة رضي الله تعالى عنه، وأيضاً لو كان كل معصوم تقبل شهادته لنفسه في ذلك اليوم لما احتيج إلى شهادة هذه الأمة على الأمم حين يشهد عليهم أنبياؤهم فينكرون كما ذكر ذلك كثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال لأنبياءهم‏:‏ هل بلغتم أممكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم بلغناهم فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنهم قد بلغوا فتقول الأمم لهم‏:‏ من أين عرفتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ عرفنا ذلك باخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق أو شهيداً عليكم بإطاعة من أطاع وعصيان من عسى، ولعل علمه صلى الله عليه وسلم بذلك بتعريف الله تعالى بعلامات تظهر له في ذلك الوقت تسوغ له عليه الصلاة والسلام الشهادة، وكون أعمال أمته تعرض عليه عليه الصلاة والسلام وهو في البرزخح كل أسبوع أو أكثر أو أقل إذا صح لا يفيد العلم بأعيان ذوي الأعمال المشهود عليهم وإلا أشكل ما رواه أحمد في مسنده‏.‏ والشيخان عن أنس‏.‏ وحذيفة قالا‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول‏:‏ يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»

وربما أشكل هذا على تقدير صحة حديث العرض سواء أفاد العلم بالأعيان أم لا، وإذا التزم صحة ذلك الحديث وأنه صلى الله عليه وسلم لم يستحضر أعمال أولئك الأقوام حين عرفهم فقال ما قال وأن المراد من من إنك لا تدري الخ مجرد تعظيم أمر ما أحدثوه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا نفي العلم به يبقى من مات من أمته طائعاً أو عاصياً في زمان حياته صلى الله عليه وسلم ولم يكن علم بحاله أصلاً كمن آمن ومات ولم يسمع صلى الله عليه وسلم به فإن عرض الأعمال في حقه لم يجيء في خبر أصلاً، والقول بعدم وجود شخص كذلك بعيد، ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أمته ويعرفهم واحداً واحداً حياً وميتاً ولذا ساغت شهادته عليهم بالطاعة والمعصية يوم القيامة لم يأت بدليل، والآية لا تصلح دليلاً له إلا بهذا التفسير وهو خل البحث، على أن في حديث الإفك ما يدل على خلافه‏.‏

وزعم بعضهم أن معرفته صلى الله عليه وسلم للطائع والعاصي من أمته لما أنه يحضر سؤالهم في القبر عنه عليه الصلاة والسلام كما يؤذن بذلك ما ورد أنه يقال للمقبور‏:‏ ما تقول في هذا الذي بعث إليكم‏؟‏ واسم ازشارة يستدعي مشاراً إليه محسوساً مشاهداً وهو كما ترى‏.‏ واختار بعض أن الشهادة بذلك على بعض الأمة وهم الذين كانوا موجودين في وقته صلى الله عليه وسلم وعلم حالهم من طاعة وعصيان‏.‏ والخطاب في ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ إما خاص بهم أو عام على سبيل التغليب وفيه ما فيه فتدبر، وقيل على في ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ بمعنى اللام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ فالمعنى شهيداً لكم، والمراد بشهادته لهم تزكيته إياهم إذا شهدوا على الأمم ولا يخفى بعده، واللام متعلقة بسماكم على الوجهين في الضمير وهي للعاقبة على ماقيل، وقال الخفاجي‏:‏ لا مانع من كونها للتعليل فإن تسمية الله تعالى أو إبراهيم عليه السلام لهم بالمسلمين حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول عليه الصلاة والسلام الداخل فيهم دخولاً أولياً وقبول شهادتهم على الأمم وفيه نوع خفاء‏.‏

‏{‏فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة‏}‏ أي فتقربوا إليه تعالى لما خصكم بهذا الفضل والشرف بأنواع الطاعات، وتخصيص هذين الأمرين بالذكر لا نافتهما وفضلهما ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أي ثقوا به تعالى في جميع أموركم ‏{‏هُوَ‏}‏ ناصركم ومتولى أموركم ‏{‏مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏ هو إذ لا مثل له تعالى في الولاية والنصرة فإن من تولاه لم يضع ومن نصره لم يخذل بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عز وجل، وفي هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الاعتصام بالله تعالى وتحقيق مقام العبودية وهو وراء التسمية والاحتباء، وجوز أن يكون ‏{‏هُوَ مولاكم‏}‏ تتميماً للاجتباء وليس بذاك هذا‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ كيد عدوهم من الشيطان والنفس ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 38‏]‏ ويدخل في ذلك الشيطان والنفس، وصدق الوصفين عليهما ظاهر جداً بل لا خوان ولا كفور مثلهما ‏{‏الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏ الخ فيه إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون فلا شطح عندهم ولا يضل أحد بكلماتهم ‏{‏فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مُّشَيَّدَةٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏ قيل‏:‏ في القرية الظالمة إشارة إلى القلب الغافل عن الله تعالى، وفي البئر المعطلة إشارة إلى الذهن الذي لم يستخرج منه الأفكار الصافية، وفي القصر المشيد إشارة إلى البدن المشتمل على حجرات القوى‏.‏

‏{‏فَإِنَّهَا لاَ تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين المنكرين فإن قلوبهم عمى عن رؤية أنوار أهل الله تعالى فإن لهم أنواراً لا ترى إلا بعين القلب وبهذه العين تدرك حقائق الملك ودقائق الملكوت، وفي الحديث‏:‏ «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» ‏{‏فِى الصدور وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 47‏]‏ قد تقدم الكلام في اليوم وانقسامه فتذكر ‏{‏فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ‏}‏ أي ستر عن الأغيار من أن يقفوا على حقيقتهم كما يشير ما يروونه من الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم أحد غيري» ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 50‏]‏ وهو العلم اللدني الذي به غداء الأرواح‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ رزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار مشاهدة الجمال ورزق الأرواح مكاشفة الجلال وإلى هذا الرزق يشير عليه الصلاة والسلام بقوله‏:‏ «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» والإشارة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ الآيات على قول من زعم صحة حديث الغرانيق إلى أنه ينبغي أن يكون العبد فناء في إرادة مولاه عز وجل وإلا ابتلى الشيطان ليتأدب ولا يبقى ذلك التلبيس لمنافاته الحكمة ‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ‏{‏ثُمَّ قُتِلُواْ‏}‏ بسيف الصدق والرياضة ‏{‏أَوْ مَاتُواْ‏}‏ بالجذبة عن أوصاف البشرية ‏{‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 58‏]‏ رزق دوام الوصلة كما قيل‏:‏ أو هو كالرزق الكريم ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله‏}‏

‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏ فيه إشارة إلى نصر السالك الذي عاقب نفسه بالمجاهدة بعد أن عاقبته بالمخالفة ثم ظلمته باستيلاء صفاتها ‏{‏وَإِن جادلوك فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 68‏]‏ أخذ الصوفية منه ترك الجدال مع المنكرين‏.‏

وذكر بعضهم أن الجدال معهم عبث كالجدال مع العنين في لذة الجماع ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 72‏]‏ الآية فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التهجم والبسور وهم في زماننا كثيرون فإنا لله وإنا إليه راجعون، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ الخ إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور والعقلاء منهم يقولون‏:‏ إنهم وسائلنا إلى الله تعالى وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين إن ‏{‏ما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل‏:‏ انذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا، ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا‏:‏ ثبت ذلك بالكشف قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افترائهم، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون‏:‏ إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية‏.‏

‏{‏وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده‏}‏ شامل لجميع أنواع المجاهدة، ومنها جهاد النفس وهو بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بإفناء الوجود، وقد قيل‏:‏ وجودك ذنب لا يقاس به ذنب *** ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ تمسكوا به جل وعلا في جميع أحوالكم ‏{‏هُوَ مولاكم‏}‏ على الحقيقة ‏{‏فَنِعْمَ المولى‏}‏ في إفناء وجودكم ‏{‏وَنِعْمَ النصير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ في إبقائكم، وما أعظم هذه الخاتمة لقوم يعقلون وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين‏.‏

‏[‏سورة المؤمنون‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ والفلاح الفوز بالمرام، وقيل‏:‏ البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول بالبشارة، وقد يجىء متعدياً وعليه قراءة طلحة بن مصرف‏.‏ وعمرو بن عبيد ‏{‏أَفْلَحَ‏}‏ بالبناء للمفعول، و‏{‏قَدْ‏}‏ لثبوت أمر متوقع وتحققه، والظاهر أنه هنا الفلاح لأن قد دخلت على فعله وهو متوقع الثبوت من حال المؤمنين، وجعله الزمخشري الإخبار بثباته وذلك لأن الفلاح مستقبل أبرز في معرض الماضي مؤكداً بقد دلالة على تحققه فيفيد تحقق البشارة وثباتها كأنه قيل‏:‏ قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح في الآخرة، وجوز أن يكون جملة ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ جواب قسم محذوف وقد ذكر الزجاج في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏ أنه جواب القسم المذكور قبله بتقدير اللام‏.‏

وقرأ ورش عن نافع ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ بالقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها لفظاً لالتقاء الساكنين كما قال أبو البقاء وهما الهمزة الساكنة بعد نقل حركتها والدال الساكنة بحسب الأصل لأنه لا يعتد بحركتها العارضة‏.‏

وقرأ طلحة أيضاً ‏{‏قَدْ‏}‏ بضم الهمزة والحاء والقاء واو الجمع وهي مخرجة على لغة أكلوني البراغيث، وقول ابن عطية هي قراءة مردودة مردود، وعن عيسى بن عمر قال‏:‏ سمعت طلحة يقرأ ‏{‏قَدْ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ فقلت له‏:‏ أتلحن‏؟‏ قال‏:‏ نعم كما لحن أصحابي، ولعل مراده إن مرجع قراءتي الرواية ومتى صحت في شيء لا يكون لحناً في نفس الأمر وإن كان كذلك ظاهراً، وإثبات الواو في الرسم مروى عن كتاب ابن خالويه‏.‏

وفي «اللوامح» أنها حذفت في الدرج لالتقاء الساكنين وحملت الكتابة على ذلك فهي محذوفة فيها أيضاً، ونظير ذلك ‏{‏وَيَمْحُ الله الباطل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 24‏]‏ وقد جاء حذف الواو لفظاً وكتابة والاكتفاء بالضمة الدالة عليها كما في قوله‏:‏

ولو أن الأطبا كان حولي *** وكان مع الأطباء الاساة

وهو ضرورة عند بعض النحاة، والمراد بالمؤمنين قيل أما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها

‏[‏بم فقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ وما عطف عليه صفات مخصصة لهم، وإما الآتون بفروعه أيضاً كما ينبىء عنه إضافة الصلاة إليهم فهي صفات موضحة أو مادحة لهم، وفي بعض الآثار ما يؤيد كونها مخصصة وجعل الزمخشري الإضافة للإشارة إلى أنهم هم المنتفعون بالصلاة دون المصلى له عز وجل، والخشوع التذلل مع خوف وسكون للجوارح‏.‏ ولذا قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير‏.‏ وغيره خاشعون خائفون ساكنون‏.‏ وعن مجاهد أنه هنا غض البصر وخفض الجناح، وقال مسلم بن يسار‏.‏ وقتادة‏:‏ تنكيس الرأس، ساكنون‏.‏ وعن مجاهد أنه هنا غض البصر وخفض الجناح، وقال مسلم بن يسار‏.‏ وقتادة‏:‏ تنكيس الرأس، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ترك الالتفات‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ وضع اليمين على الشمال‏.‏

وعن أبي الدرداء إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام، ويتبع ذلك ترك الالتفات وهو من الشيطان فقد روى البخاري‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال‏:‏ ‏"‏ هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ‏"‏‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه قال في مرضه‏:‏ أقعدوني أقعدوني فإن عندي وديعة أودعنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يلتفت أحدكم في صلاته فإن كان لا بد فاعلاً ففي غير ما افترض الله تعالى عليه ‏"‏‏.‏

وترك العبث بثيابه أو شيء من جسده، وإنكار منافاته للخشوع مكابرة، وقد أخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» لكن بسند ضعيف عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال‏:‏ ‏"‏ لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه ‏"‏ وترك رفع البصر إلى السماء وإن كان المصلي أعمى وقد جاء النهي عنه، فقد أخرج مسلم‏.‏ وأبو ادود‏.‏ وابن ماجه عن جابر بن سمرة قال‏:‏ ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم ‏"‏ وكان قبل نزول الآية غير منهي عنه، فقد أخرج الحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت ‏{‏الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ فطأطأ رأسه، وترك الاختصار وهو وضع اليد على الخاصرة وقد ذكروا أنه مكروه‏.‏

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الاختصار في الصلاة راحة أهل النار ‏"‏ أي إن ذلك فعل اليهود في صلاتهم استراحة وهم أهل النار لا أن لهم فيها راحة كيف وقد قال تعالى‏:‏

‏{‏لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 75‏]‏ ومن أفعالهم أيضاً فيها التميل وقد جاء النهي عنه‏.‏

أخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ رآني أبو بكر رضي الله تعالى عنه أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف عن صلاتي ثم قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة ‏"‏ وقال في «الكشاف»‏:‏ من الخشوع أن يستعمل الآداب وذكر من ذلك توقي كف الثوب والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى‏.‏ وفي «البحر» نقلاً عن التحرير أنه اختلف في الشخوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول ومحله القلب اه، والصحيح عندنا خلافه، نعم الحق أنه شرط القبول لا الاجزاء‏.‏

وفي المنهاج وشرحه لابن حجر ويسن الخشوع في كل صلاته بقلبه بأن لا يحضر فيه غير ما هو فيه وإن تعلق بالآخرة وبجوارحه بأن لا يعبث بأحدها، وظاهر أن هذا مراد النووي من الخشوع لأنه سيذكر الأول بقوله‏:‏ ويسن دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب إلا أن يجعل ذلك سبباً له ولذا خصه بحالة الدخول‏.‏

وفي الآية المراد كل منهما كما هو ظاهر أيضاً، وكان سنة لثناء الله تعالى في كتابه العزيز على فاعليه ولانتفاء ثواب الصلاة بانتفائه كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولأن لنا وجهاً اختاره جمع أنه شرط للصحة لكن في البعض فيكره الاسترسال مع حديث النفس والعبث كتسوية ردائه أو عمامته لغير ضرورة من تحصيل سنة أو دفع مضرة، وقيل يحرم اه، وللإمام في هذا المقام كلام طويل من أراده فليرجع إليه‏.‏

وتقديم الظرف قيل لرعاية الفواصل‏.‏ وقيل ليقرب ذكر الصلاة من ذكر الإيمان فإنهما أخوان وقد جاء إطلاق الإيمان عليها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وقيل للحصر على معنى الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون، وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال‏:‏ يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وأحمد في الزهد، والحاكم وصححه عن حذيفة قال‏:‏ ‏"‏ أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة ‏"‏ الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُمْ عَنِ اللغو‏}‏ وهو ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال، وعن ابن عباس تفسيره بالباطل، وشاع في الكلام الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير‏:‏ وقد يسمى كل كلام قبيح لغواً، ويقال فيه كما قال أبو عبيدة لغو ولغا نحو عيب وعاب، وأنشد‏:‏ عن اللغا ورفث التكليم *** ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ في عامة أوقاتهم لما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه مع ما فيهم من الاشتغال بما يعنيهم، وهذا أبلغ من أن يقال‏:‏ لا يلهون من وجوه، جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوى الحكم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثابت، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأساً مباشرة وتسبباً وميلاً وحضوراً فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُمْ للزكواة فاعلون‏}‏ الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري أعني التزكية لأنه الذي يتعلق به فعلهم، وأما المعنى الثاني وهو القدر الذي يخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولاً لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون أو تضمين ‏{‏فاعلون‏}‏ معنى مؤدون وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تعقب بأنه لا يقال فعلت الزكاة أي أديتها، وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ، وهذا أحد الوجوه للعدول عن والذين يزكون إلى ما في «النظم الكريم»‏.‏

وجميع ما مر آنفاً في بيان أبلغية ‏{‏والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 3‏]‏ من والذين لا يلهون جار هنا سوى الوجه الخامس اتفاقاً والرابع عند بعض لأن المقدم متعلق تعلق الجار والمجرور بما بعده كيف واللام زائدة لتقوية العمل من وجهين، تقديم المعمول، وكون العامل اسماً‏.‏

وقال بعض آخر‏:‏ يمكن جريان مثله حيث قدم المعمول مع ضعف عامله لا للتخصيص بل لكونه مصب الفائدة، ويجوز اعتبار التخصيص الإضافي أيضاً بالنسبة إلى الإنفاق فيما لا يليق، ووصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم لم يألوا جهداً بالعبادة البدنية والمالية، وتوسيط حديث الإعراض بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة وإلا فأكثر ما تذكر هاتان العبادتان في القرآن معاً بلا فاصل‏.‏

وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَيْراً مّنْهُ زكواة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 81‏]‏ واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة واللام للتعليل، والمعنى والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى أو ليزكوا أنفسهم، ونقل نحوه الطيبي عن صاحب الكشف فقال‏:‏ قال صاحب الكشف‏:‏ معنى الآية الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏ ‏{‏وَقَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏ فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً ولا ينبغي أن يعدل عن تفسير بعضه ببعض ما أمكن، وقال بعض الأجلة‏:‏ إن اقتران ذلك بالصلاة ينادي على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة الذي هو عبادة مالية، وتنظير ما نحن فيه بالآيتين بعيد لأنهما ليستا من هذا القبيل في شيء، وربما يقال‏:‏ الفصل بينهما يشعر بما اختاره الراغب ومن حذا حذوه، وأيضاً كون السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة يؤيده لئلا يحتاج إلى التأويل بما مر فتدبر‏.‏

وأياً ما كان فالآية في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، وقول بعض زنادقة الأعاجم الذين جرموا ذوق العربية‏:‏ ألا قيل مؤدون بدل ‏{‏فاعلون‏}‏ من محض الجهل والحماقة التي أعيت من يداويها فإنه لو فرض أن القرآن وحاشا لله سبحانه كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام الذي مخضت له الفصاحة زبدها وأعطته البلاغة مقودها وكان صلى الله عليه وسلم بين مصاقع نقاد لم يألوا جهداً في طلب طعن ليستريحوا به من طعن الصعاد، وقد جاء نظير ذلك في كلام أمية بن أبي الصلت قال

‏:‏ المطعمون الطعام في السنة *** الأزمة والفاعلون للزكوات

ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا أعابوه، واختار الزمخشري في هذا حمل الزكاة على العين وتقدير المضاف دون الآية، وعلل بجمعها وهو إنما يكون للعين دون المصدر‏.‏ وتعقب بأنه قد جاء كثير من المصادر مجموعة كالظنون والعلوم والحلوم والأشغال وغير ذلك، وهي إذا اختلف فالأكثرون على جواز جمعها وقد اختلفت ههنا بحسب متعلقاتها فإن أخراج النقد غير إخراج الحيوان وإخراج الحيوان غير إخراج النبات فليحفظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ وصف لهم بالعفة وهو وإن استدعاه وصفهم بالإعراض عن اللغو إلا أنه جىء به اعتناء بشأنه، ويجوز أن يقال‏:‏ إن ما تقدم وإن استدعى وصفهم بأصل العفة لكن جىء بهذا لما فيه من الإيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وأنهم حافظون لها عن استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كمال العفة، واللام للتقوية كما مر في نظيره، و‏{‏على‏}‏ متعلق يحافظون لتضمينه معنى ممسكون على ما اختاره أبو حيان والإمساك يتعدى بعلى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏ وذهب جمع إلى اعتبار معنى النفي المفهوم من الإمساك ليصح التفريغ فكأنه قيل حافظون فروجهم لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم، وقال بعضهم‏:‏ لا يلزم ذلك لصحة العموم هنا فيصح التفريغ في الإيجاب‏.‏ وفي «الكشف» الوجه أن يقال‏:‏ ما في الآية من قبيل حفظت على الصبي ماله إذا ضبطه مقصوراً عليه لا يتعداه، والأصل حافظون فروجهم على الأزواج لا تتعداهن ثم قيل غير حافظين إلا على الأزواج تأكيداً على تأكيد، وعلى هذا تضمين معنى النفي الذي ذكره الزمخشري من السياق واستدعاء الاستثناء المفرغ ذلك ولم يؤخذ مما في الحفظ من معنى المنع والإمساك لأن حرف الاستعلاء يمنعه انتهى وفيه ما فيه‏.‏

ويا ليت شعري كيف عد حرف الاستعلاء مانعاً عن ذلك مع أن كون الإمساك مما يتعدى به أمر شائع، وقال الفراء‏.‏ وتبعن ابن مالك‏.‏ وغيره‏:‏ إن ‏{‏على‏}‏ هنا بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما أن من بمعنى على في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونصرناه مِنَ القوم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 77‏]‏ أي على القوم، وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالاً من ضمير ‏{‏حافظون‏}‏ والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين وقوامين على أزواجهم من قولك‏:‏ كان فلان على فلانة فمات عنها، ومنه قولهم‏:‏ فلانة تحت فلان ولذا سميت المرأة فراشاً أو متعلقة بمحذوف يدل علي ‏{‏غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ كأنه قيل يلامزن إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه، وكلا الوجهين ذكرهما الزمخشري‏.‏

واعترض بأنهما متكلفان ظاهراً فيهما العجمة، وأورد على الأخير أن إثبات اللوم لهم في أثناء المدح غير مناسب مع أنه لا يختص بهم، وكون ذلك على فرض عصيانهم وهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ ابتغى‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 7‏]‏ الخ لا يدفعه كما توهم؛ ولا يجوز أن تتعلق بملومين المذكور بعد لما قال أبو البقاء من أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله‏.‏

والمراد مما ملكت أيمانهم السريات، والتخصيص بذلك للإجماع على عدم حل وطء المملوك الذكر، والتعبير عنهم بما على القول باختصاصها بغير العقلاء لأنهن يشبهن السلع بيعاً وشراءً أو لأنهن لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن جاريات مجرى غير العقلاء، وهذا ظاهر فيما إذا كن من الجركس أو الروم أو نحوهم فكيف إذا كن من الزنج والحبش وسائر السودان فلعمري إنهن حينئذٍ إن لم يكن من نوع البهائم فما نوع البهائم منهن ببعيد، والآية خاصة بالرجال فإن التسري للنساء لا يجوز بالإجماع، وعن قتادة قال تسرت امرأة غلاماً فذكرت لعمر رضي الله تعالى عنه فسألها ما حملك على هذا‏؟‏ فقالت‏:‏ كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ تأولت كتاب الله تعالى على غير تأويله فقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ لا جرم لا أحلك لحر بعده أبداً كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها وأمر العبد أن لا يقربها، ولو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فاعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار‏.‏

وقال النخعي‏.‏ والشعبي‏.‏ وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة‏:‏ يبقيان على نكاحهما ‏{‏فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ تعليل لما يفيده الاستثناء من عدم حفظ فروجهم من المذكورات أي فإنهم غير ملومين على ترك حفظها منهن‏.‏

وقيل الفاء في جواب شرط مقدر أي فإن بذلوا فروجهم لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك، والمراد بيان جنس ما يحل وطؤه في الجملة وإلا فقد قالوا‏:‏ يحرم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر وهذا مجمع عليه‏.‏

وفي الجمع بين الاختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف على ما في «البحر»، وذكر الآمدي في الأحكام أن علياً كرم الله تعالى وجهه احتج على جواز الجمع بين الاختين في الملك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك‏}‏ أي المذكور من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء، وانتصاب ‏{‏وَرَاء‏}‏ على أنه مفعول ‏{‏أَبْتَغِى‏}‏ أي خلاف ذلك وهو الذي ذهب إليه أبو حيان، وقال بعض المحققين‏:‏ إن ‏{‏وَرَاء‏}‏ ظرف لا يصلح أن يكون مفعولاً به وإنما هو سادس مسداً لمفعول به، ولذا قال الزمخشري‏:‏ أي فمن أحدث ابتغاء وراء ذلك ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون‏}‏ الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يشير إليه الإشارة والتعريف وتوسيط الضمير المفيد لجعلهم جنس العادين أو جميعهم، وفي الآية رعاية لفظ ‏{‏مِنْ‏}‏ ومعناها ويدخل فيما وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم وهذا مما لا خلاف فيه‏.‏

واختلف في وطء جارية أبيح له وطؤها فقال الجمهور‏:‏ هو داخل فيما وراء ذلك أيضاً فيحرم وهو قول الحسن‏.‏ وابن سيرين‏.‏ وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وعبد الرزاق عنه أنه سئل عن امرأة أحلت جاريتها لزوجها فقال‏:‏ لا يحل لك أن تطأ فرجاً أي غير فرج زوجتك إلا فرجاً إن شئت بعت وإن شئت وهبت وإن شئت اعتقت، وعن ابن عباس أنه غير داخل فلا يحرم، فقد أخرج عبد الرزاق عنه رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ إذا أحلت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها وهو قول طاوس، أخرج عنه عبد الرزاق أيضاً أنه قال‏:‏ هو أحل من الطعام فإن ولدت فولدها للذي أحلت له وهي لسيدها الأول، وأخرج عن عطاء أنه قال‏:‏ كان يفعل ذلك يحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها وقد بلغني أن الرجل يرسل وليدته لصديقه وإلى هذا ذهبت الشيعة، والآية ظاهرة في رده لظهور أن المعارة للجماع ليست بزوجة ولا مملوكة وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا *تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ فإن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر خصوصاً إذا كان المقام مقتضياً لذكر جميع ما لا يجب العدل فيه، وفي عدم وجوب العدل تكون العارية أقدم من الكل إذ لا يجب فيها ألا تحمل منة مالك الفرج فقط وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ فإنه لو جازت العارية لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر على ترك نكاحهن متحققاً، ونحوه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏ فإنه لو كانت العارية جائزة لم يؤمر الذين لا يجدون نكاحاً بالاستعفاف، ولعل الرواية السابقة عن ابن عباس غير صحيحة، وكذا اختلف في المتعة فذهبت الشيعة أيضاً إلى جوازها، ويرد عليهم بما ذكرنا من الآيات الظاهرة في تحريم العارية، وأخرج عبد الرزاق‏.‏

وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال‏:‏ هي محرمة في كتاب الله تعالى وتلا‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5‏]‏ الآية وقرر وجه دلالة الآية على ذلك أن المستمتع بها ليست ملك اليمين ولا زوجة فوجب أن لا تحل له أما أنها ليست ملك اليمين فظاهر وأما أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة لحصل التوارث لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ تَصِفُ مَا تَرَكَ أزواجكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 12‏]‏ وتعقبه في «الكشف» بأن لهم أن يقولوا‏:‏ إنها زوجة يكشف الموت عن بينونتها قبيله كما أنها تبين بانقضاء الأجل قضاءً لحق التعليق والتأجيل، وحاصله منع استفسار في الملازمة إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفد وإن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فإن قيل‏:‏ لا تبين بالموت كالنكاح المؤبد‏.‏ أجيب بأنه قياس في عين ما افترق النكاحان به وهو فاسد بالإجماع‏.‏

وتعقب هذا شيخ الإسلام لخفاء معناه عليه بأنه ليس للترديد معنى محصل ولو قيل‏:‏ إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة فالملازمة ممنوعة وإن أريد بعد الموت لم يفد لكان له وجه، وقال هو في رد الاستدلال لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة وأما إن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونه، وقال بعضهم‏:‏ الحق أن الآية دليل على الشيعة فإن ظاهر كلامهم أنها ليست بزوجة أصلاً حيث ينفون عنها لوازم الزوجية بالكلية من العدة والطلاق والإيلاء والظهار وحصول الإحصان وإمكان اللعان والنفقة والكسوة والتوارث ويقولون بجواز جمع ما شاء بالمتعة ولا شك أن نفي اللازم دليل نفي الملزوم‏.‏ وتعقب بأن هذا حق لو سلم أنهم ينفون اللوازم كلها لكنه لا يسلم، ونفى بعض اللوازم لا يكفي في الرد عليهم إذا قالوا‏:‏ إن الزوجية قسمان كاملة وغير كاملة إذ بنفي ذلك البعض إنما ينتفي القسم الأول وهو لا يضرهم، وقيل‏:‏ الذي يقتضيه الإنصاف أن الآية ظاهرة في تحريم المتعة فإن المستمتع بها لا يقال لها زوجة في العرف ولا يقصد منها ما هو السر في مشروعية النكاح من التوالد والتناسل لبقاء النوع بل مجرد قضاء الوطر وتسكين دغدغة المنى ونحو ذلك، وزعم أنه يتم الاستدلال بالآية بهذا الطرز على التحريم سواء نفيت اللوازم أم لم تنف كما هو مذهب بعض القائلين بالحل كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى‏.‏

ولعل الأقرب إلى الإنصاف أن يقال‏:‏ متى قيل بنفي اللوازم من حصول الإحصان وحرمة الزيادة على الأربع ونحو ذلك كانت الآية دليلاً على الحرمة لأن المتبادر من الزوجية فيها الزوجية التي يلزمها مثل ذلك وهو كاف في الاستدلال على مثل هذا المطلب الفرعي، ومتى لم يقل بنفي اللوازم ولم يفرق بينها وبين النكاح المؤبد إلا بالتوقيت وعدمه لم تكن الآية دليلاً على التحريم، هذا ولي ههنا بحث لم أر من تعرض له وهو أنه قد ذكر في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم المتعة يوم خيبر، وفي «صحيح مسلم» أنه عليه الصلاة والسلام حرمها يوم الفتح، ووفق ابن الهمام بأنها حرمت مرتين مرة يوم خيبر ومرة يوم الفتح وذلك يقتضي أنها كانت حلالاً قبل هذين اليومين، وقد سمعت آنفاً ما يدل على أن هذه الآية مكية بالاتفاق فإذا كانت دالة على التحريم كما سمعت عن القاسم بن محمد وروى مثله ابن المنذر‏.‏

وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها لزم أن تكون محرمة بمكة يوم نزلت الآية وهو قبل هذين اليومين فتكون قد حرمت ثلاث مرات ولم أر أحداً صرح بذلك، وإذا التزمناه يبقى شيء آخر وهو عدم تمامية الاستدلال بها وحدها على تحريم المتعة لمن يعلم أنها أحلت بعد نزولها كما لا يخفى، لا يقال‏:‏ إن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة، الأول‏:‏ أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بمكة عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار، الثاني‏:‏ أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني الثالث‏:‏ أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة، وحينئذ يمكن أن تكون هذه الآية مكية بالاصطلاح الثاني وتكون نازلة يوم الفتح يوم حرمت المتعة في المرة الثانية ولا يكون التحريم إلا مرتين ويكون استدلال من استدلوا بها من الصحابة والتابعين وغيرهم على التحريم وإن علموا أن المتعة أحلت بعد الهجرة في بعض الغزوات مما لا غبار عليه، وإذا التزم هذا الاصطلاح في مكية جميع السورة المجمع عليها حسبما سمعت عن البحر ينحل إشكال حمل الزكاة على الزكاة الشرعية مع فرضيتها بالمدينة بأن يقال‏:‏ إن أوائل السورة نزلت بعد فرضية الزكاة في المدينة عام الفتح في مكة لأنا نقول‏:‏ لا شبهة في أنه يمكن كون الآية مكية بالاصطلاح الثاني وكونها نازلة يوم الفتح وكذكل يمكن كون كل السورة أو أغلبها مكياً بذلك الإصطلاح وكل ما بني على ذلك صحيح بناء عليه إلا أن المتبادر من المكي والمدني المعنى المصطلح عليه أولاً لأن الإصطلاح الأول أشهر الاصطلاحات الثلاثة كما قاله الجلال السيوطي في «الاتقان»‏.‏

فالظاهر من قولهم‏:‏ إن هذه السورة مكية أنها نزلت قبل الهجرة بل قد صرح الجلال المذكور بأنها إلا ما استثنى منها مما سمعته مكية على الاصطلاح الأول دون الثاني ولا يجزم مثله بذلك إلا عن وقوف فما ذكر مجرد تجويز أمر لا يساعد على ثبوته صريح نقل بل النقل الصريح مساعد على خلافه وهو المرجع فيما نحن فيه‏.‏

فقد قال القاضي أبو بكر في الانتصار‏:‏ إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين، وكونهما قد يعرفان بالقياس على ما ذكره الجعبري وغيره مع عدم جدواه ليس بشيء، نعم إذا جعل استدلال الصحابي أو التابعي المطلع على إباحة المتعة بعد الهجرة بها قولاً باستثنائها عن أخواتها من آيات السورة وحكماً عليها بنزولها بعد الهجرة دونهم فالأمر واضح، وستطلع أيضاً إن شاء الله تعالى على ما يوجب استثناء غير ذلك، وبالجملة متى قيل المدار في أمثال هذه المقامات صريح النقل تعين القول بأن الآية مكية بمعنى أنها نزلت قبل الهجرة، وأشكل الاستدلال بها على تحريم المتعة بعد تحليلها بعد الهجرة لكون دليل التحليل مخصصاً لعمومها، ومذهب الأئمة الأربعة جواز تخصيص عموم القرآن بالسنة مطلقاً وهو المختار ويحتاج حينئذ إلى دليل غيرها على التحريم، وبعد ثبوت الدليل تكون هي دليلاً آخر بمعونته وهذا الدليل الاخبار الصحيحة من تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وقد تقدم بعضها، وفي «صحيح مسلم» عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وقد حرم الله تعالى ذلك إلى يوم القيامة ‏"‏‏.‏

وأخرج الحازمي بسنده إلى جابر قال‏:‏ ‏"‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يطفن في رحالنا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهن وقال‏:‏ من هؤلاء النسوة‏؟‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيباً فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود إليها أبداً ‏"‏ وقد روى تحريمها عنه عليه الصلاة والسلام أيضاً علي كرم الله تعالى وجهه وجاء ذلك في «صحيح مسلم» ووقع على ما قيل إجماع الصحابة على أنها حرام وصح عند بعض رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى القول بالحرمة بعد قوله بحلها مطلقاً أو وقت الاضطرار إليها، واستدل ابن الهمام على رجوعه بما رواه الترمذي عنه أنه قال‏:‏ إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية

‏{‏إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فكل فرج سواهما فهو حرام، ولا أدري ما عنى بأول الإسلام فإن عنى ما كان في مكة قبل الهجرة أفاد الخبر أنها كانت تفعل قبل إلى أن نزلت الآية فإن كان نزولها قبل الهجرة فلا إشكال في الاستدلال بها على الحرمة لو لم يكن بعد نزولها إباحة لكنه قد كان ذلك، وإن عنى ما كان بعد الهجرة أوائلها وأنها كانت مباحة إذ ذاك إلى أن نزلت الآية كان ذلك قولاً بنزول الآية بعد الهجرة وهو خلاف ما روى عنه من أن السورة مكية المتبادر منه الاصطلاح الأول ولعله يلتزم ذلك؛ ويقال‏:‏ إن استدلاله بالآية قول باستثنائها كما مر آنفاً أو يقال‏:‏ إن هذا الخبر لم يصح، ويؤيد هذا قول العلامة ابن حجر‏:‏ أن حكاية الرجوع عن ابن عباس لم تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع أنهم وافقوه في الحل لكن خالفوه فقالوا‏:‏ لا يترتب على ذلك أحكام النكاح، وبهذا نازع الزركشي في حكاية الاجماع فقال‏:‏ الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه انتهى‏.‏ ويفهم منه أن ابن عباس يدخل المستمتع بها في الأزواج وحينئذ لا تقوم الآية دليلاً عليه فتدبر‏.‏

ونسب القول بجواز المتعة إلى مالك رضي الله تعالى عنه وهو افتراء عليه بل هو كغيره من الأئمة قائل بحرمتها بل قيل إنه زيادة على القول بالحرمة يوجب الحد على المستمتع ولم يوجبه غيره من القائلين بالحرمة لمكان الشبهة‏.‏

وكذا اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى الخضخضة وجلد عميرة فجمهور الأئمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك، وكان أحمد بن حنبل يجيزه لأن المني فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة، وقال ابن الهمام‏:‏ يحرم فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب‏.‏ ومن الناس من منع دخوله فيماذكر ففي «البحر» كان قد جرى لي في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري بن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بهذه الآية فقلت‏:‏ إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر به في أشعارها وكان ذلك كثيراً فيهم بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ولم يكونوا ينكرون ذلك وأما جلد عميرة فلم يكن معهوداً فيهم ولا ذكره أحد منهم في شعر فيما علمناه فليس بمندرج فيما وراء ذلك انتهى، وأنت تعلم أنه إذاثبت أن جلد عميرة كناية عن الاستمناء باليد عند العرب كما هو ظاهر عبارة «القاموس» فالظاهر ان هذا الفعل كان موجوداً فيما بينهم وإن لم يكن كثيراً شائعاً كالزنا فمتى كان ذلك من أفراد العام لم يتوقف اندراجه تحته على شيوعه كسائر أفراده، وفي الأحكام إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص مثلاً فورد خطاب عام بتحريم الطعام نحو حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وإن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافاً لأبي حنيفة عليه الرحمة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه، نعم لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام كما خصصت الدابة بذوات القوائم الأربع لكان لفظ الطعام منزلاً عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم‏.‏

والفرق أن العادة أولاً إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص فلا تكون قاضية على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام، وثانياً هي مطردة في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فتكون قاضية على الاستعمال الأصلي اه، ومنه يعلم أن الاستمناء باليد إن كان قد جرت عادة العرب على إطلاق ذلك عليه وجرت على إطلاقه على ما عداه من الزنا ونحوه لم يدخل ذلك الفعل في العموم عند الجمهور‏.‏

ومن الناس من استدل على تحرميه بشيء آخر نحو ما ذكره المشايخ من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ناكح اليد ملعون» وعن سعيد بن جبير عذب الله تعالى أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم، وعن عطاء سمعت قوماً يحشرون وأيديهم حبالى وأظن أنهم الذين يستمنون بأيديهم والله تعالى أعلم، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله‏.‏ ولا يخفى أن كل ما يدخل في العموم تفيد الآية حرمة فعله على أبلغ وجه؛ ونظير ذلك إفادة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏ حرمة فعل الزنا فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون‏}‏ قائمون بحفظها وإصلاحها، وأصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقاً‏.‏ والأمانات جمع أمانة وهي في الأصل مصدر لكن أريد بها هنا ما ائتمن عليه إذ الحفظ للعين لا للمعنى وأما جمعها فلا يعين ذلك إذ المصادر قد تجمع كما قدمنا غير بعيد، وكذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه لذلك، والآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والايمان والنذور والعقود ونحوها، وجمعت الأمانة دون العهد قيل لأنها متنوعة متعددة جداً بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العد‏.‏

وجوز بعض المفسرين كونها خاصة فيما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الناس وليس بذاك، ويجوز عندي أن يراد بالأمانات ما ائتمنهم الله تعالى عليه من الأعضاء والقوى، والمراد برعيها حفظها عن التصرف بها على خلاف أمره عز وجل‏.‏ وأن يراد بالعهد ما عاهدهم الله تعالى عليه مما أمرهم به سبحانه بكتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد برعيه حفظه عن الإخلال به وذلك بفعله على أكمل وجه فحفظ الأمانات كالتخلية وحفظ العهد كالتحلية‏.‏ وكأنه جل وعلا بعد أن ذكر حفظهم لفروجهم ذكر حفظهم لما يشملها وغيرها، ويجوز أن تعمم الأمانات بحيث تشمل الأوال ونحوها وجمعها لما فيها لمن التعدد المحصوص المشاهد فتأمل‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو في رواية ‏{‏لأمانتهم‏}‏ بالإفراد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏راعون والذين هُمْ على صلواتهم‏}‏ المكتوبة عليهم كما أخرج ابن المنذر عن أبي صالح‏.‏ وعبد بن حميد عن عكرمة ‏{‏يُحَافِظُونَ‏}‏ بتأديتها في أوقاتها بشروطها وإتمام ركوعها وسجودها وسائر أركانها كما روى عن قتادة‏.‏

وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قيل له‏:‏ إن الله تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن ‏{‏الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 34‏]‏ قال ذاك على مواقيتها قالوا‏:‏ ما كنا نرى ذلك الأعلى فعلها وعدم تركها قال‏:‏ تركها الكفر، وقيل‏:‏ المحافظة عليها المواظبة على فعلها على أكمل وجه‏.‏ وجيء بالفعل دون الاسم كما في سائر رؤس الآي السابقة لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعت في قراءة السبعة ما عدا الأخوين وليس ذلك تكريراً لما وصفهم به أولاً من الخشوع في جنس الصلاة للمغايرة التامة بين ماهنا وما هناك كما لا يخفى‏.‏

وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها، وتقديم الخشوع للاهتمام به فإن الصلاة بدونه كلا صلاة بالاجماع وقد قالوا‏:‏ صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وقيل‏:‏ تقديمه لعموم ما هنا له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الاضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليهم حساً، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة ‏{‏هُمُ الوارثون‏}‏ أي الأحقاء أن يسموا وارثاً دون من عداهم ممن لم يتصف بتلك الصفات من المؤمنين، وقيل‏:‏ ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَرِثُونَ الفردوس‏}‏ صفة كاشفة أو عطف بيان أو بدل، وإياما كان ففيه بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيماً لها وتأكيداً، والفردوس أعلا الجنان، أخرج عبد بن حميد‏.‏ والترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح غريب عن أنس رضي الله تعالى عنه أن الربيع بنت نضير أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابنها الحرث بن سراقة أصيب يوم بدر أصابه سهم غرب فقالت‏:‏ أخبرني عن حارثة فإن كان أصاب الجنة احتسبت وصبرت وإن كان لم يصب الجنة اجتهدت في الدعاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنها جنان في جنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها» وعلى هذا لا إشكال في الحصر على ما أشرنا إليه أولاً فإن غير المتصف بما ذكر من الصفات وإن دخل الجنة لا يرث الفردوس التي هي أفضلها، وبتقدير إرثه إياها فهو ليس حقيقاً بأن يسمى وارثاً لما أن ذلك إنما يكون في الأغلب بعد كد ونصب، وإرثهم إياها من الكفار حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل منزلاً في الجنة ومنزلاً في النا‏.‏ ر

أخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهم عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزلة فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الوارثون‏}‏» وقيل الإرث استعارة للاستحقاق وفي ذلك من المبالغة ما فيه لأن ازرث أقوى أسباب الملك، واختير الأول لأنه تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما صححه القرطبي ‏{‏هُمْ فِيهَا‏}‏ أي في الفردوس وهو على ما ذكره ابن الشحنة مما يؤنث ويذكر‏.‏

وذكر بعضهم أن التأنيث باعتبار أنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا، وقد تقدم لك تمام الكلام في الفردوس‏.‏

‏{‏خالدون‏}‏ لا يخرجون منها أبداً، والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها وإما حال مقدرة من فاعل ‏{‏يَرِثُونَ‏}‏ أو مفعوله كما قال أبو البقاء إذ فيها ذكر كل منهما، ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ لما ذكر سبحانه أولاً أحوال السعداء عقبه بذكر مبدئهم ومآل أمرهم في ضمن ما يعمهم وغيرهم وفي ذلك إعظام للمنة عليهم وحث على الاتصاف بالصفات الحميدة وتحمل مؤن التكليفات الشديدة أو لما ذكر إرث الفردوس عقبه بذكر البعث لتوقفه عليه أو لما حث على عبادته سبحانه وامتثال أمره عقبه بما يدل على ألوهيته لتوقف العبادة على ذلك ولعل الأول أولى في وجه مناسبة الآية لما قبلها، ويجوز أن يكون مجموع الأمور المذكورة، واللام واقعة في جواب القسم والواو للاستئناف‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ هي عاطفة جملة كلام على جملة وإن تباينتا في المعاني وفيه نظر، والمراد بالإنسان الجنس، والسلالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه فهي ما سل من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل فتارة تكون مقصودة منه كالخلاصة وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل‏.‏

وذكر الزمخشري أن هذا البناء يدل على القلة، ومن الأولى ابتدائية متعلقة بالخلق، ومن الثانية يحتمل أن تكون كذلك إلا أنها متعلقة بسلالة على أنها بمعنى مسلولة أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة، ويحتمل أن تكون على هذا تبعيضية وأن تكون بيانية، وجوز أن يكون ‏{‏مِن طِينٍ‏}‏ بدلاً أوعطف بيان بإعادة الجار، وخلق جنس الإنسان مما ذكر باعتبار خلق أول الأفراد وأصل النوع وهو آدم عليه السلام منه فيكون الكل مخلوقاً من ذلك خلقاً إجمالياً في ضمن خلقه كما مر تحقيقه، وقيل‏:‏ خلق الجنس من ذلك باعتبار أنه مبدأ بعيد لأفراد الجنس فإنهم من النطف الحاصلة من الغذاء الذي هو سلالة الطين وصفوته، وفيه وصف الجنس بوصف أكثر أفراده لأن خلق آدم عليه السلام لم يكن كذلك أو يقال ترك بيان حاله عليه السلام لأنه معلوم، واقتصر على بيان حال أولاده وجاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وقيل المراد بالطين آدم عليه السلام على أنه من مجاز الكون، والمراد بالسلالة النطفة وبالإنسان الجنس ووصفه بما ذكر باعتبار أكثر أفراده أو يقال كما قيل آنفاً، ولا يخفى خفاء قرينة المجاز وعدم تبادر النطفة من السلالة، وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وروى ذلك عن جماعة وما ذهبنا إليه أولاً أولى، والضمير

‏[‏بم في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ جعلناه نُطْفَةً‏}‏ عائد على الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السلام، وإذا أريد بالإنسان أولاً آدم عليه السلام فالضمير على ما في «البحر» عائد على غير مذكور وهو ابن آدم، وجاز لوضوح الأمر وشهرته وهو كما ترى أو على الإنسان والكلام على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله، وقيل يراد بالإنسان أولاً آدم عليه السلام وعند عود الضمير عليه ما تناسل منه على سبيل الاستخدام، ومن البعيد جداً أن يراد بالإنسان أفراد بني آدم والضمير عائد عليه ويقدر مضاف في أول الكلام أي ولقد خلقنا أصلاً الإنسان الخ، ومثله أن يراد بالإنسان الجنس أو آدم عليه السلام والضمير عائد على ‏{‏سلالة‏}‏ والتذكير بتأويل المسلول أو الماء أي ثم صيرنا السلالة نطفة‏.‏

والظاهر أن ‏{‏نُّطْفَةٍ‏}‏ في سائر الوجوه مفعولاً ثانياً للجعل على أنه بمعنى التصيير وهو على الوجه الأخير ظاهر، وأما على وجه عود الضمير على الإنسان فلا بد من ارتكاب مجاز الأول بأن يراد بالإنسان ما سيصير إنساناً، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحد ويكون ‏{‏نُّطْفَةٍ‏}‏ منصوباً بنزع الخافض واختاره بعض المحققين أي ثم خلقنا الإنسان من نطفة كائنة ‏{‏فِى قَرَارٍ‏}‏ أي مستقر وهو في الأصل مصدر من قر يقر قراراً بمعنى ثبت ثبوتاً وأطلق على ذلك مبالغة؛ والمراد به الرحم ووصفه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّكِينٍ‏}‏ أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر، وجوز أن يقال‏:‏ إن الرحم نفسها متمكنة ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولاً تمج ما فيها فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه‏.‏